التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صدق الورَاق .. ولو بعد حين


استوقني مقال تحت عنوان ( حوار مع ورَاق ) فى كتاب للدكتور زكي نجيب محمود وهي عدة مقالات كتبت على ازمنة مختلفة وجمعت فى كتاب اسماه ( قيم من التراث ) ، بعد قراءتي لمجمل الكتاب تأكدت من المقولة التي تقول : ان الفيلسوف هو صاحب القدرة على الاندهاش .. او ان تكون فيلسوفاً يجب ان تندهش . فلقد لاحظت ان جميع المقالات التي كتبت فى قيم من التراث مضمونها الدهشة لاحداث مرت على استاذ الفلسفة سابقاً او تفاصيل الحياة اليومية مضمخة بعمق الاندهاش والتفكر معاً .


فيحكي د. زكي بأنه فى عام 1963 ذهب لشراء رزمة من الورق الابيض المسطر ، الذي اعتاد الكتابة عليه ، فحينها كان عرض الورق قليل فى الاسواق فأرتفعت الاسعار وهي النظرية الاقتصادية المعروفة ( العلاقة العكسية بين العرض والسعر ) ، لكنه لم يتوقع ان ترتفع الاسعار بذلك القدر ، فلقد اعطاه الوراق رزمة لا تشتمل على اكثر من مئة ورقة بقيمة ثمانين قرشاً بقياسات 1963 . فعبر الدكتور عن تعجبه كيف لورق ابيض ان ترتفع قيمته بهذا المقدار مع مقارنة ان الكتاب الذي يشتمل على مئة ورقة لا يبلغ هذا القدر عند شرائه .


وهنا كانت النظرية التي بالفعل كانت مدهشة للدكتور ولي بالتحديد ان هذا الوراق البسيط -و القارئي ايضاً - هو صاحب نظريات وتنبؤات سبقت عصرها واثبتها التاريخ او الزمان الذي نعيش فيه ... كيف ذلك ...؟


يرى هذا الرجل ان الورق مطبوعاً في كتاب هو ورق بالنقصان ، لا بالزيادة ، لان المادة المكتوبة في معظم الحالات هي مداد لطًخ بياض الورق ونقاءه ، كالثوب يسئ اليه لابسه بالقذر فتهبط قيمته . فهنا اعترضه الدكتور بأن التشبيه خاطئ تماماً ويجب القول( ان الفرق بين الحالتين ، كالفرق بين اكواب تبيعها فارغة ، فيملؤها الشاري بشراب ، سائغ ، ثم هي لا تفرغ من شرابها ابداً ، مهما تعاقب عليه الشاربون ، جيل بعده جيل ) . فأجابه : ان الاختلاف بينهما يكمن فى كيف يكون النص عنده مستساغاً وتارة نافراً منه ؟ .. تحدث الورَاق عن الكتابات وعن الكُتاب برغم انهم يعيشون فى كنف الحياة القاسية ومشاكلها وهمومها فإنهم بأقلامهم يصبحون كفرسان العصور الوسطى شاهرين اقلامهم ليقفوا : هل من مبارز ، بيد ان الحياة تعج بالنقايص والظلام الذي تحتاج كل فئات المجتمع ان يسلط الضوء عليها .. وانهم يبحثون عن مواقع الضوء والرئاسة بدل التحول الى مواقع الظلام لإضائتها ..


ثانياً ان الكُتاب يصيبهم الملق ، اي يتملقون كل فئات المجتمع من الناس فيقولون ان الشباب بلغوا الرشد والرشاد ، والحكام أقاموا العدالة والعدل ، والمجتمع بلغ الكمال ، وذلك لإبتغائهم بقعة ضوء او مكافئة مالية وغيرها من الامتيازات والمناصب ، مع العلم ان الشباب الذي زعموا له الرشاد تعوزه الارادة ، والجمهور الذي بلغوه الكمال تنقصه المعرفة ، والحكام الذين كثيرا ما انحرف عنهم ميزان العدالة . هنا انتقده الدكتور بإسرافه التعميم فطالبه بمثال وانتقده لكون معرفته ودرايته بكل هذا النقد والتحليل لم يأتي من فراغ انما مكتسباً من قراءاته . فأجابه الورًاق : اما بالنسبة للتعميم فهو جائز ، ولكن هذا ما نخرج به من عامة قراءاتنا لكون التمحيص والتدقيق هو شأن الدارسين وليس العامة ، اما مثالا على ما اقول هو تقسيم الشعب الى خمسة فئات حينها ( العمال ، الفلاحين ، جنود ، المثقفين ، رأس مالية وطنية ) وهو اتحاد قوى الشعب العاملة ، هذا التقسيم الذي يسمى التقسيم الافقي اي تقسيم لضروب العمل وليس رأسي الذي يخلف الطبقية وانقسام المجتمع الى احرار وعبيد . هو قرار جائر فى حق المجتمع الذي يعتبر الشعب فيه من اصل واحد ، ومع العلم ان كل هذه الوظائف قد تجتمع فى فرد واحد بأنه موظف وله عقار وايضاً مثقف فما بال اذا كان هذا التقسيم داخل الاسرة الواحدة ، وهذا بالفعل ما نراه اليوم اختلاف الفئات وفق التقسيم الوظيفي .


وهنا يجادل الرجل ( بأنه سيأتي يوم يتضخم الشعور عند العامل او الفلاح بأنه صاحب مصلحة ليست هي بالضبط مصلحة المثقف ، وينتج عنه شيئاً من المنافسة الخفية ، ويؤدي الى استغلال بعضنا البعض ) ، وهنا يؤكد نظريته التي تؤكد تملق الكُتاب من اصحاب النفوذ من اجل بقعة ضوء .


وما تنبأ به الورَاق هو انتقام العامل والفلاح وذوو المهن الصغيرة من بعضهم البعض بإرهاق كلٍ الاخر وتقييم قيمة العمل كل وفقاً لحاجته واستياءه ، ومعرفته بمدى حوجة الأخر للخدمة او المصلحة المعينة ، هذا ما سيولد فى المدى البعيد بين الاهل والاقرباء والمجتمع الكراهية والانتقام ، واصبح مشاهداً تصارع الموظفين داخل مؤسسات المجتمع المدني على المناصب والنفوذ والعلاوات وتدبير الدسايس كل للآخر . فما بال المجتمع بمختلف وظائفهم واحلامهم واحقادهم وبيئاتهم .


نتاجاً لذلك ايضا تأسست داخل الامة والمجتمع مفهوم الفرد وسيطرته على مراكز القوى ان كان من الناحية المادية او من الناحية الاجتماعية وبأخذ المجتمع السوداني دليل على ذلك أصبح للأسماء الفضفاضة سحر وجازبية فى اختيار الازواج واختيار الانتساب للاسر وتكوين شراكة تقدر في حساباتها ضمان تحقيق التوازن بين النجومية وبين المال ، بين المال وشراء ابداعات الاخرين ، بين المال وادعاء الثقافة . ما تعجبت له ان تطبيقات الأشتراكية تفرز نتائج رأسمالية وهي الملتقى الوحيد الذي يخفف من حدة التناحر بين النظريتين منذ زمن بعيييييييد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوم في مصحة عقلية

من يعش بين المجانين يصعب عليه العيش وسط العقلاء  في الأولى نفوس مضطربه ولكنها صافية، عقول غائبة ولكنها مسالمة أما في دنيا العقلاء فأنت وسط جيش يقحمك في معارك المشاعر المتسخة والعقول الماكرة إما قتلوك غدرا وإما أسروك تشفيا  اليوم الذي يقتادوك فيه الى المصحة العقلية وسط عدد ليس بقليل من المضطربين، سترتعد من تصرفاتهم وهيئتهم وعبثهم, ويصيبك تشويش ذهني طفيف وأنت تستحضر كل أحاديث العقلاء عن الجنون, وكل ما قرأت عن فاقدي العقل. كما تتدفق صور كل النساء والرجال المتسخين والحفايا والهائمين على وجوههم في الأسواق والشوارع وهم يحدثون أنفسهم ويصرخون، والجميع يتجنبهم أو يصرفهم بلؤم.  تخافهم بعقل ويهابونك بلا عقل... اذا حالفك الحظ وأطالوا اقامتك بين المرضى -ولا أعلم من هو المريض أنت أم هم- سيهالك الفزع والحيرة عند اكتشافك أنك أول عاقل تسبب في زج هؤلاء إلى سجن الذهول هذا الذي يحاصرهم. حينئذ لا تبتئس وتشعر بالتعاطف أو تبلل خديك عبثا فالمجرم بلا قلب انما بعقل كامل ومتقد. لا تحاول ان تستجوب المشرف الطبي عن قصصهم فلن يستوعب عقلك الكبير مدى البؤس الذي اجتاحهم من عقلاء حولهم، ولن تدرك الفوضى التي خلفها المجتم

ماذا ستختار؟

لا بأس بقليل من البذاءة وعدم الاحترام والتعنت والصراخ والتمرد في هذه الحياة فحتى الرب يستحب اخطائنا وتوبتنا  لكن النظرية المثالية في المجتمع المسلم الشرقي ضد الخطايا وتحفز بعنف شديد منذ الصغر على اظهار الملاك الذي يسكنك على الرغم أنني ويا سبحان الله لم أصادفه في حياتي منذ أن وعيت لمعنى الحياة بالمقابل كل الذي يحوم حولك هو السباب من والديك مع حفنة قليلة من الكلمات الرقيقة الموسمية، تهاجمك شهوة النساء والرجال في مراهقتك ولا أحد يدلك لطريق الخلاص سوى أصدقاء -بارك الله فيهم- ينعتون بأصدقاء السوء رغم أن سوئهم كان المنقذ الوحيد في مقابلة الصمت من المجتمع الذي يعشق الرزيلة ويخرس حينما تحتاجها، ثم تبتلع صديد المجتمع بكل فئاته في العمل في الشارع في الزواج حتى الإمام في المسجد الذي تأوي اليه اسبوعيا لا ينفك يشعل نيران غضبك لا تهدئته النتيجة إما ازدواجية تعتريك كما حدث لكل الذين سبقوك في الحياة وإما صمت طويل لا فكاك منه أو الهرب وغالبا ما يختار العاقل هذا الأخير لأنه أخف ضررا نهرب من بلداننا ومن منازلنا ومن أنفسنا ومن عباداتنا ومن أزواجنا ومن خالقنا فليس لدينا من الشجاعة ولا الايجابية ولا الخبرة

أمـــي .. ولـــــكن !!!

عندما يتحدث الأخرون عن عيد الأم أتذكر أيامنا فى الثانوية حيث كنا نجلس فى شكل دائرى ونتحدث عما فعلنه بنا أمهاتنا .. من تفاصيل ، وغضب ، ونقد . كل فتاة منا كانت من مجتمع ، وتربية ، وموازين مختلفة عن الأخرى ولكن جميعنا كنا نعاني من تربية الأم السودانية. وفي كل صباح كانت تنضم الى حزب النقاش فتاة جديدة .. وكنا نكتشف أن الامهات السودانيات مهما اختلفت مستوياتهن العلمية او البيئية فهن من حواء سودانية واحدة بمعايير ثابته .. حتى اننا دُهشنا حينما أكتشفنا أن حتى الفاظ (التجريح، والزجر والعقوية) متشابهه اذا لم تكن متطابقة . ورحمة الله عليه دكتور عبدالجليل كرار"مدير مدرسة المنار الجديد بنات" كان يأتي ليجلس معنا ويطلق علينا ( جمعية مناهضة الأم السودانية ) فكنا نعترض على لفظ الأم ونضيف (تربية الأم) السودانية .. من الجانبين تربيتها هي كفتاة ، وحينما تغدو مُربية . كنا نفتتح النقاش بملاحظات أو أسئلة صغيرة مثل ( تفتكروا في زول فى السودان بكره أمه ؟ ) كانت الاجابة المعتادة لا وكان السؤال الذي يليه لماذا ؟ كان الرد .. بعد صمت طويل للبحث عن مبرر، وخوفنا منه نقول لأنها بإختصار أم .. السؤال الذي يليه