التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الخرس الذي لم ينتهي





حاجز الكلمات الذي لا يمكن أن تتخطاه حتى بعد كل محاولة للامساك بالقلم السائل أو الجاف أو الألكتروني. لا ينفع إن جلست القرفصاء أو أدرت الموسيقى أو توجهت قبالة النيل، فلا شئ يشفع لك ولا شئ يحرك موات الكلمات والأفكار من مدار رخامها، لتصبح حالة سائلة أو غازية أو أي هيئة تجعلها تغير وضعية التجمد تلك.

ما العمل ؟ كيف انفض غبار الغياب هذا؟ كيف سأثبت للتاريخ أنني إنسان عشت في هذه الأرض وأمسكت بتلابيبها وصرت مواطنة لها بطاقة وجواز وحصة من الثروة وليس السلطة. بدون كلمات وحروف ومقالات وأنفاس وصراخ لا يمكنني أن أثبت ذلك لابنائي لأحفادي أو حتى للغرباء الذين لا يعرفونني. هذا الجفاف يتملكني ويطحنني ويرعبني فلا عدت أخاطب نفسي ولا من حولي ولا أكترث لافكاري الهائمة في مخيلتي دون أن تجد من يصطادها.

استغرب مع كل معرض كتاب يولد مؤلف أو كاتب أو شاعر جديد ماذا يقولون ؟ هل هم هواة لعب بالمشارط أم حفظة بالسليقة؟ كيف بإمكانهم التعبير ونشرات الأخبار من داخل المقابر تغلق منافذك جميعها للبوح والنطق والشكوى؟ كيف يفترشون الأوراق وسواد العباد يحيل بياضها الى لوحة مشوهة رائحتها تذكم الأنوف ؟ على أي أسئلة يجيبون والعالم يستغيث من الخوف والكل صم وعمي؟

من أين يأتون بوقود الدافع الذي يشعل الرغبة في النقاش والقول والتحليل والرسم بالكلمات ؟ هل هم فعلا مدركون أن لا أحد يود سماع الا نفسه ؟ هل أخبرتموهم أن بضاعتهم كاسدة في زحمة التويتات والاستيتسات والصور الشخصية التي لا تحتاج الى صندوق الجدة العتيق لنحفظها؟
الجميع منكب في كتابة سيرته الذاتية ليجد عنوان ومرتب وحبيبة يقنعها أنه يستطيع أن يطعمها كل يوم، ولكن لا يمكنه التحدث اليها الا في الشهر مرتين. الجميع منكفئ على وتسابه لينقل ذات الرسالة للمرة الألف لصديقه الخامس والستين في استراليا يسخر معه على فيديو جديد يصور رئيس الدولة صاحب الأنف المعوجة والكرش المنتفخة بأموال المواطن الغلبان. الجميع مشغولون بمباراة ريال وبرشلونة ويقضون الليل في المقاهي او الصالات مراعيين فرق التوقيت العالمي ليخرج جزء منهم محبطاً او فرحاً بعد صفارة الشوط الثاني. الأطفال يديرون الهاتف النقال والآي باد ببراعة فني مقتدر ولا يستطيعون التمييز إذا كانت كلمة اصطفاف بالسين أم بالصاد

مع كل ذلك ما زالت مشكلتي مع الخرس قائمة ولا تنفك مني. فأنظر بعيني وأحترق في داخلي وأنكفئ مثل البقية في حياة يومية متبلدة محاصرة باللاشئ موبوءة بمجاملاتنا وكذبنا، متناقضة ما بين غنى المال وفقر النفس، بين التأثر اللحظي واللامبالاة الأبدية وبين الوجوه التي تبتسم لك وتطعنك في الظهر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوم في مصحة عقلية

من يعش بين المجانين يصعب عليه العيش وسط العقلاء  في الأولى نفوس مضطربه ولكنها صافية، عقول غائبة ولكنها مسالمة أما في دنيا العقلاء فأنت وسط جيش يقحمك في معارك المشاعر المتسخة والعقول الماكرة إما قتلوك غدرا وإما أسروك تشفيا  اليوم الذي يقتادوك فيه الى المصحة العقلية وسط عدد ليس بقليل من المضطربين، سترتعد من تصرفاتهم وهيئتهم وعبثهم, ويصيبك تشويش ذهني طفيف وأنت تستحضر كل أحاديث العقلاء عن الجنون, وكل ما قرأت عن فاقدي العقل. كما تتدفق صور كل النساء والرجال المتسخين والحفايا والهائمين على وجوههم في الأسواق والشوارع وهم يحدثون أنفسهم ويصرخون، والجميع يتجنبهم أو يصرفهم بلؤم.  تخافهم بعقل ويهابونك بلا عقل... اذا حالفك الحظ وأطالوا اقامتك بين المرضى -ولا أعلم من هو المريض أنت أم هم- سيهالك الفزع والحيرة عند اكتشافك أنك أول عاقل تسبب في زج هؤلاء إلى سجن الذهول هذا الذي يحاصرهم. حينئذ لا تبتئس وتشعر بالتعاطف أو تبلل خديك عبثا فالمجرم بلا قلب انما بعقل كامل ومتقد. لا تحاول ان تستجوب المشرف الطبي عن قصصهم فلن يستوعب عقلك الكبير مدى البؤس الذي اجتاحهم من عقلاء حولهم، ولن تدرك الفوضى التي خلفها المجتم

ماذا ستختار؟

لا بأس بقليل من البذاءة وعدم الاحترام والتعنت والصراخ والتمرد في هذه الحياة فحتى الرب يستحب اخطائنا وتوبتنا  لكن النظرية المثالية في المجتمع المسلم الشرقي ضد الخطايا وتحفز بعنف شديد منذ الصغر على اظهار الملاك الذي يسكنك على الرغم أنني ويا سبحان الله لم أصادفه في حياتي منذ أن وعيت لمعنى الحياة بالمقابل كل الذي يحوم حولك هو السباب من والديك مع حفنة قليلة من الكلمات الرقيقة الموسمية، تهاجمك شهوة النساء والرجال في مراهقتك ولا أحد يدلك لطريق الخلاص سوى أصدقاء -بارك الله فيهم- ينعتون بأصدقاء السوء رغم أن سوئهم كان المنقذ الوحيد في مقابلة الصمت من المجتمع الذي يعشق الرزيلة ويخرس حينما تحتاجها، ثم تبتلع صديد المجتمع بكل فئاته في العمل في الشارع في الزواج حتى الإمام في المسجد الذي تأوي اليه اسبوعيا لا ينفك يشعل نيران غضبك لا تهدئته النتيجة إما ازدواجية تعتريك كما حدث لكل الذين سبقوك في الحياة وإما صمت طويل لا فكاك منه أو الهرب وغالبا ما يختار العاقل هذا الأخير لأنه أخف ضررا نهرب من بلداننا ومن منازلنا ومن أنفسنا ومن عباداتنا ومن أزواجنا ومن خالقنا فليس لدينا من الشجاعة ولا الايجابية ولا الخبرة

أمـــي .. ولـــــكن !!!

عندما يتحدث الأخرون عن عيد الأم أتذكر أيامنا فى الثانوية حيث كنا نجلس فى شكل دائرى ونتحدث عما فعلنه بنا أمهاتنا .. من تفاصيل ، وغضب ، ونقد . كل فتاة منا كانت من مجتمع ، وتربية ، وموازين مختلفة عن الأخرى ولكن جميعنا كنا نعاني من تربية الأم السودانية. وفي كل صباح كانت تنضم الى حزب النقاش فتاة جديدة .. وكنا نكتشف أن الامهات السودانيات مهما اختلفت مستوياتهن العلمية او البيئية فهن من حواء سودانية واحدة بمعايير ثابته .. حتى اننا دُهشنا حينما أكتشفنا أن حتى الفاظ (التجريح، والزجر والعقوية) متشابهه اذا لم تكن متطابقة . ورحمة الله عليه دكتور عبدالجليل كرار"مدير مدرسة المنار الجديد بنات" كان يأتي ليجلس معنا ويطلق علينا ( جمعية مناهضة الأم السودانية ) فكنا نعترض على لفظ الأم ونضيف (تربية الأم) السودانية .. من الجانبين تربيتها هي كفتاة ، وحينما تغدو مُربية . كنا نفتتح النقاش بملاحظات أو أسئلة صغيرة مثل ( تفتكروا في زول فى السودان بكره أمه ؟ ) كانت الاجابة المعتادة لا وكان السؤال الذي يليه لماذا ؟ كان الرد .. بعد صمت طويل للبحث عن مبرر، وخوفنا منه نقول لأنها بإختصار أم .. السؤال الذي يليه