منذ المرحلة الإبتدائية وانا أعشق مادة التاريخ وأحكم على السنة الدراسية ومدرسيها، وبقية المواد بأستاذ/ة التاريخ فهو الذي يجعل للماضي حضور وللزمان هيبة الأحداث .. وفي إعتقادي أنها شخصية ذات عمق وبعد فى معرفة الحاضر والمستقبل لذلك كنت من اكثر الطالبات سؤالاً عن التفاصيل ..
كان حدسي يخبرني أن لكل حقبة فى منهج دراستنا بها خبايا لا يحق لنا معرفتها لكوننا تلاميذ .. كما يفعلون بنا ونحن صغار حينما نُكثر من الاسئلة المعقدة فيجبوننا بإجابة واحدة ( انته صغار لسه.. بكرة تكبره تعرفه ) .. ولكن للأسف اكتشفت أن هذا الغد لم يأتي ولن يأتي فالتاريخ تم العبث به من أجل مصالح المنهج السياسي .. فهو منهج تنظيمي وليس منهج تعليمي ..فيغمرني حزن كلما اكتشفت أنه تم تلقيننا الأدب والتاريخ والعلوم على وجهة الحكم .. فكما رسخوا فى اعماقنا المهدية وبجلوا صورة المهدية فى أحد أبواب التاريخ قلصوا صفحات تاريخ الجنوب بعدد من المقالات .. فى مرحلة الشهادة الثانوية تناكفت كثيراً مع استاذي حول لماذا لا نُجوِد قراءة الفصل الاخير عن الجنوب فيجيبني برؤية تجارية بحته ( عشان المقالات المتوقعه فى الامتحان معظمها من الفصول الاولى) .. وكان بالفعل الإمتحان اغلبيته يشمل تاريخ الشمال ولكنهم اثلجوا صدري بحوالي 3 مقالات عن جنوب السودان ..
حينما قرأت كتاب لاستاذ( مكي ابوقرجه) فى مقالاته التى جمعها فى (أصوات في الثقافه السودانية) عن شخصيات كثيرة تعيش فى الظل - والظل هنا خارج مناهجنا أو حتى محاور دراساتنا- مثل جوزيفينا بخيته تلك السيدة التى لم يُكشف عنها القناع للاعلام الداخلي ، وذكر تاريخها السيد منصور خالد فى احدى المؤتمرات التى عُقدت فى جامعة كيمبردج ..فذكر الكاتب ( وهي سيدة من جنوب السودان عاشت كرقيق فى أواخر القرن التاسع عشر وجئ بها الى الخرطوم بعد ان تعرضت لعذابات مريرة على أيدي النخاسين وكان خلاصها على يد القنصل الايطالي العام في زمن الدولة التركية الذي اخذها الى ايطاليا حيث عُمدت واُدخلت الدين المسيحي وسُميت جوزيفينا الإ انها أصرت على الاحتفاظ باسم بخيته وانضمت الى ( اخوات كانوسيان) وأصبحت معروفة بالأخت السوداء ) .. (وخلال الحرب العالمية الثانية قامت بأعمال انسانية أثارت الاعجاب حين إنبرت لحماية سكان بلدة ستيو خلال عمليات القصف ، وبعد خمسين عاماً على وفاتها وفى عام 1992 طوبتها الكنيسة وبعد ذلك سماها البابا قديسة لتنضم الى قائمة العدد القليل من القديسين السود ) وحينما ابتهج الكاثوليك السود فى جميع انحاء العالم بهذه المناسبة تجاهل الإعلام الحكومي إبنته وأصبحت جوزيفينا منتيمه إيطاليه رغم أنها (ببخيته) هذه لم تنسى أصلها.
هنالك أجيال مضت وأخرى ستأتي غابت عنها حقائق التاريخ وشخصيات قد تعيش الان بيننا ولكن ثرواتها لن يكتشفها الا الغريب كما هي حال ثرواتنا دوماً .. وحينما يُخرجوننا نحن التلاميذ الى المجتمع يصنعون منا أُناس عاديون اصحاب شهادات مهنية لكون الطبيب والمهندس فى بلادي هو الذي يُحترم .
من يصنعون التاريخ سادتي ليسوا هم الأطباء انما من يدركون أن التاريخ كان بلا مسميات ، مفتوح لكل الأصناف والجنسيات والديانات .. إذن من سيصنع تاريخ اصحاب الظل هؤلاء ؟ لا التوثيق أنصفهم ولا الإعلام يتوجه اليهم ولا أجيال المستقبل تدركهم .. أليس هنالك من أصحاب النخبه ومدمني الفشل هؤلاء ممن يبحثون عن كلمة شرف فى حق التاريخ ..؟ أليس من حقنا بمكتبات وحرية للقراءة دون مصادرة الظل؟ ..
فى بدايات العام 2007 توفيت الاستاذة مي غصوب تلك السيدة التى كانت ترعى بمكتبتها (دار الساقي ) كل الخارجين عن فنون الكتابه العربية المنبوذه فى تاريخ الأدب السياسي والفكري والإجتماعي .. سيده جعلت من الكتابه وطن بلا مسمى او تصنيف وإدخرت كثير من الشخصيات والمعلومات ، ليأتي يوم ويكتشف فيه جيلنا وأجيال قادمه أن للحقيقة اكثر من وجه .. هل هنالك من مي غصوب أخرى سودانية .. دار نشر تحترف كشف الدفاتر وما خُبئ من التاريخ بسوداه وفجائعه ؟
تعليقات