التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإغتراب .. أم الإنسحاب


ما بين الأرض والمنفى .. وما بين الحب وعدم المبالاة نجد قصص كثيرين من أهل بلادي الذي رحلوا إما اختيارا أو قسراً ينشدون الأمل في مرافئ جديدة للعلم وللمأوى وللحلم النظيف ، لكنهم استلذوا آلام غيرهم من أحبة وأقارب، وبخلوا بالوقت والعشرة فقست قلوبهم على من ينتظرون المواقيت السعيدة والحزينة ليأتوا إليهم حافلين بالأشواق ومحملين بالذكريات . فرحلوا إلى غير مكان وبلا عودة.


يقلقني جدا مصير النسل السوداني وهو يؤول الى الإنقراض من حيث إنتمائه الوطنى والثقافي والفكري، يقلقني أكثر خواء المساحات الشاسعه التي يتزاحم الآخرون للإستحواذ على كل شبر منها لكيما يجدوا أرض للسكن والمأوى ، يقلقني هزيمة شعب بأكمله فى عدم التغلب على أهوائه الخاصة من أجل مستقبل أجيال قادمة وتغيير قادم .


حينما بدأت الكتابة فى صحيفة الخرطوم بعمود إسبوعي يحمل إسم "تفاصيل". زاحمتني الإتصالات العالمية بكل وسائلها من السودانيين فى الغربة، سودانيون يختلفون في مزاجياتهم وأعراقهم وأحلامهم ولكن مشحونون بأشواقهم للوطن ، سودانيون متوغلون فى الإغتراب ، متمسكون بالإنسحاب ، وراضيون بالمنفى المزخرف براحة العيش والجسد والهوى الذي يخلو من الروح والإنتماء.
مغتربون لا يدركون أن هذا الوطن جريح ببعد أبناءه عنه ، فهو لا يستطيع الدفاع عن ذاته وهو متقصص الأجنحه. وطن لن يستطيع دحر الظلم وهو خالي من جنود ورجال تديره. كيف يستطيع وطن سروقوا منه هويته أن يُعرِف نفسه بلا شهود وبلا أقارب ينتمون إليه ؟ . أصبحت الدنيا بأكملها تسخر من بلاد السُمر الذين يتفرقون في أرض الله الواسعه بحثاً عن المال وهم أغنى الرجال بالماء والأرض ولكنهم أفقر خلق الله في العطاء والغرس لبلادهم.


كيف تتجرؤون بالمجاهرة على صفحات الإنترنت والمواقع المختلفة بحبكم وإنتماءكم لأرض أنتم لا تعرفون ملامحها فى العشر سنوات الأخيرة إلا عن طريق المحادثات التلفونية او الصور المتفرقة والأخبار الملفقة والغير موثقه ؟ كيف تتجرؤون على نقد وطنكم وساستها وأنتم لم تفعلون شيئاً لتغيير هذا الخراب ؟ لماذا تتوقعون من السارق أن يراجع ضميره حينما وجد ابواب الدار مشرعه وأصحابها غائبون ؟
الإغتراب عند أغلبية السودانيون هو حل سهل جدا ومختصر جدا دونما عناء أو مشقة ، لذلك المفهوم المنطقى الذي وضعت من أجله الغربه لا يتناسق مع كثيرين من المغتربين السودانيين فالأمر أصبح "موضه" ليس من وراءه هدف ولا غاية فى التطوير ، وما يثبت ذلك وجود المئات بل الألآف من المغتربين الذين لم يصنعوا ويخلقوا لحياتهم معنى ولا قيمة بل صاروا مجرد عبيد في بلاط الكفيل ومجرد مكدسين للأموال تاركين أهاليهم يلعقون أشواقهم يترجون ولو شهر من الإجازة الصيفية يروون عطش وحشتهم . حتى من تميزوا وسادوا في بلاد غير السودان لم يبلوروا هذه الخبرات لعون هذا الوطن الهزيل بكوادره وعلمه. من الذي صرخ وقاتل لتطوير قريته او مدينته الصغيرة دونما التعللل الدائم والركيك بعقبات الحكومة او الكوادر البشرية او ضعف الإدارة ولم يجد في الإنسحاب خياره الأفضل؟ خبروني كيف نزيل هذه العقبات والمصاعب ونحن لم نجلس معاً لنفكر ونخطط لإزالتها ؟ هل سمعتم بأن هنالك دولة عظمى ورائده بنت تجربتها الإقتصادية والسياسية بالتذمر ، والنقد الغير بناء ، وإزدراء كل قبيلة أو طائفه على أختها الأخرى ؟


يبدو أن هذه البلاد ليس لها "وجيع" وليس هنالك من قلوب رحيمة تشفق عليها من هذا العناء ، لا يوجد أحد ينظر ولو بعين خائفة وقلقه على مستقبل أجيال كامنه بالقدرات ،لن تجد لها فضاء للعيش ولا للتعبير ولا للخلق . الإغتراب هو أكبر دليل على فشل شعب بأكمله في تحمل مسؤولية نفسه ، وتحمل مسؤولية أخطائه ،والهروب من واقعه. أصبح أبناء المغتربون يتوافدون كالسياح في وطنهم مجبرين على الدراسة ، وهم بعيدون كل البعد بمزاجياتهم الثقافية عن السودان ما أستغربه أن حتى دور رب الأسرة فى بلاد الغربة من تثقيف وغرس روح الوطنيه فى أبناءه قد قصر فيه لذلك يأتي هؤلاء الصغار - ولا ألومهم الى ذلك - لبلاد هم لا يعلمون عنها شيئاً . ماذا كنت تفعل أيها المغترب حينما وجب عليك بناء هؤلاء الأبناء لكيما يقوموا بالدور الذي أخفقت فيه أنت تجاه وطنك ، هل شغلك الرزق أيضاً كما أبعدك عن وطنك . هذا يُثبت وبالدليل القاطع أن الرزق وقلة الإمكانيات ليست سبباً كافياً للتقاعس عن أدوارنا لذلك كما فشلت أيها المغترب في وطنك فشلت أيضاً في المساهمة في تمكين نشئ جديد ليتحمل عبء هذا الوطن.


هو ليس تحامل إنما وجع لا يدركه إلا من له خيال لرسم صورة السودان بعد سنوات ليست بالبعيدة ، وهو ليس إلا ملام العاشق لمعشوقه فلا يستطيع أحدهما الإستغناء عن الآخر ، وهو ليس عدم إدراك ومعرفة بظروف كل مغترب خرج مجبراً للمنفى إنما هي عًبرة كل أم لا تدري هل سيتوفاها الأجل بقرب أبناءها أم على عاتق الغرباء ، هي صرخة كل وليد لن يرى أباه قريباً ولن يتحسسه عند الميلاد ، هي فورة أرض بكر خصبة مشحونة بالغبن والغضب لكونها ستظل بور إلى أن يرثها من يقدر قيمتها. يا سادتي بلدان كثيرة جدا تشبهنا سقطت بالحروب وبالفقر وبالجهل وبالحمية وباللامبالاة ولكنها إختلفت عنا بشحذ قواها البشرية والفكرية لتقف صلبه من جديد ، ورأسمالها شئ واحد فقط هو الإحساس بالوطن ، إنجاز للوطن ، تنازل من أجل الوطن. لن يُغسل عنا ذُل الفقر والتناحر والجهل إلا حينما نلملم أطرافنا ، أبناءنا ، جهودنا من أجل معنى نبيل وسامي وليست غايات رخيصة وأهواء شخصية.

تعليقات

الغربة..هي أن تبحث عن ذرة حنان وفي النهايه لاتجد سوى صدر الزمان لتترتمي عليهـ ...
الغربة..أن تمشي بين دهاليز طريق مخيف ... وحيدا دونما صديق أو أنيس ..
الغربة..أن تكون وحيدا تبكي ألما من قسوة الزمان وفقد الأمان
الغربة..أن تفقد من يمسح دموعكـ في لحظة ضعف وهوان
الغربة..أن تشعر باليأس تجــاه عودة أغلى إنسان
الغربة..أن تعيش الظلام وأنت في وضح النهار
الغربة..أن تفقد بصرك على الرغم من أنك تملكهـ
الغربة..أن تعيش حياتك على قبس خيوط من ألم
الغربة..أن تصبح مهددا في وطنك وفوق ثراه
الغربة..أن تعيش في عالم يستمتع بهـ من حولك لكنك لاتشعر بالمتعهـ كما هو حالهم

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا ستختار؟

لا بأس بقليل من البذاءة وعدم الاحترام والتعنت والصراخ والتمرد في هذه الحياة فحتى الرب يستحب اخطائنا وتوبتنا  لكن النظرية المثالية في المجتمع المسلم الشرقي ضد الخطايا وتحفز بعنف شديد منذ الصغر على اظهار الملاك الذي يسكنك على الرغم أنني ويا سبحان الله لم أصادفه في حياتي منذ أن وعيت لمعنى الحياة بالمقابل كل الذي يحوم حولك هو السباب من والديك مع حفنة قليلة من الكلمات الرقيقة الموسمية، تهاجمك شهوة النساء والرجال في مراهقتك ولا أحد يدلك لطريق الخلاص سوى أصدقاء -بارك الله فيهم- ينعتون بأصدقاء السوء رغم أن سوئهم كان المنقذ الوحيد في مقابلة الصمت من المجتمع الذي يعشق الرزيلة ويخرس حينما تحتاجها، ثم تبتلع صديد المجتمع بكل فئاته في العمل في الشارع في الزواج حتى الإمام في المسجد الذي تأوي اليه اسبوعيا لا ينفك يشعل نيران غضبك لا تهدئته النتيجة إما ازدواجية تعتريك كما حدث لكل الذين سبقوك في الحياة وإما صمت طويل لا فكاك منه أو الهرب وغالبا ما يختار العاقل هذا الأخير لأنه أخف ضررا نهرب من بلداننا ومن منازلنا ومن أنفسنا ومن عباداتنا ومن أزواجنا ومن خالقنا فليس لدينا من الشجاعة ولا الايجابية ولا الخبرة

أمـــي .. ولـــــكن !!!

عندما يتحدث الأخرون عن عيد الأم أتذكر أيامنا فى الثانوية حيث كنا نجلس فى شكل دائرى ونتحدث عما فعلنه بنا أمهاتنا .. من تفاصيل ، وغضب ، ونقد . كل فتاة منا كانت من مجتمع ، وتربية ، وموازين مختلفة عن الأخرى ولكن جميعنا كنا نعاني من تربية الأم السودانية. وفي كل صباح كانت تنضم الى حزب النقاش فتاة جديدة .. وكنا نكتشف أن الامهات السودانيات مهما اختلفت مستوياتهن العلمية او البيئية فهن من حواء سودانية واحدة بمعايير ثابته .. حتى اننا دُهشنا حينما أكتشفنا أن حتى الفاظ (التجريح، والزجر والعقوية) متشابهه اذا لم تكن متطابقة . ورحمة الله عليه دكتور عبدالجليل كرار"مدير مدرسة المنار الجديد بنات" كان يأتي ليجلس معنا ويطلق علينا ( جمعية مناهضة الأم السودانية ) فكنا نعترض على لفظ الأم ونضيف (تربية الأم) السودانية .. من الجانبين تربيتها هي كفتاة ، وحينما تغدو مُربية . كنا نفتتح النقاش بملاحظات أو أسئلة صغيرة مثل ( تفتكروا في زول فى السودان بكره أمه ؟ ) كانت الاجابة المعتادة لا وكان السؤال الذي يليه لماذا ؟ كان الرد .. بعد صمت طويل للبحث عن مبرر، وخوفنا منه نقول لأنها بإختصار أم .. السؤال الذي يليه

فزع

هل جربت ان تصحو منتصف الليل فزعا تتحسس مثلك وقيمك؟ هل أضناك البحث عن أسباب انهيار القيم المجتمعية والاخلاقية فيمن حولك؟ هل تبحث بين الكتب والمراجع عن مجتمعات فاضلة لتندس وتهرب اليها؟ هل تطيل النظر في عيني كل من تتعرف عليه حديثا متفحصا ومتوجسا من أن يكون مفلس أخلاقيا؟ يعتقد الاغلبية منا أن من أبتلوا بالاعاقات النفسية ومتكدسين في المستشفيات والمصحات العقلية أنهم ضحايا الحياة أو ضحايا أنفسهم، لكنهم مع الأسف ضحايا مجتمع (زيرو أخلاق) مفلس وغير واعي لافلاسه. تقوده جذوة النفس الأمارة بالسوء وهو لا يدرك أنه من أهل السوء ويكاد يهدم ويقتل ويحرق ليثبت أنه ليس من هذه الفئة حينما تصبح الاخلاق مجرد جمل وصفات تكميلية تكتب على السير الذاتية وليست افعال تمثلنا حينها يصبح جميع من بالمجتمع ملصقات مزخرفة معبئة بأردئ أنواع المنتجات مغشوشة ومزيفة