التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لا يُرى بالعين المُحرضة




المداومة على الشرب والأكل ومصارعة المدير او الزوجة فى حياتك وأنت تحظى بمرتب شهري ثابت لا يعني ذلك أبدا أنك تعيش الواقع ، إنما أنت تعيش واقعك الخاص بك فقط . والكثير منا من الحظ بمكان لكونه على اتصال بأهله ويشاطرهم أتراحهم قبل أفراحهم ، لكن القليل منا من فقد عزيز عليه غدراً أو ظلماً في حرب يومية أو صراع ما وهؤلاء هم فقط من عايشوا الواقع ليس واقعهم إنما الواقع الآن.

الواقع الذي هو أبعد من تصورنا في أحيان كثيرة ، الواقع الذي نقرأه على صفحات الجرايد بمعدل يومي من جرائم قتل عصيٌ على العقل تقديرها. أصبحت في كل صباح أرى المراسلة في مكتبي يجرجر أقدامه وتتقطر من بين يديه دماء رائحتها نفاذة وهو يحمل حزمة الصحف اليومية ، حتى غدوت أسأله بدم من تلطخت يداك هذا الصباح . أحياناً أراها حمراء فاقعة تملأ باحة مكتبي ويداي فأفكر بغسلهما عسى الا أشتم رائحة الدماء.
السؤال هل إذالة البقع تعني أننى محوت أثار دمائهم من واقعي او تفكيري ؟ ما أصارعه عند كل جريمة اقرائها ليس الخوف أن يحملني القدر لأكون في الصفحة الأولى بشريط أسود على عيناي ، إنما ما أعانيه أنني كم مرة ساهمت وسأساهم في تحريض فتىً يافع ، أو أم ، او أب ، أو أخ أو حبيب بقتلي أو بقتل قريب أو عزيز عليه؟

نقبع فى مجتمع لا يولد فينا غير الغضب المكبوت عبر أجيال ، مجتمع يخرسنا وأبنائنا لنكون أنبياء ومتسامحيين ونمرر أخطاء الغير كيما تسير القوافل بسلام. ليس بعد الآن .. لم يعد لأجيال قادمة أن تُخفي كل هذا الغضب والبغض ، ستثور على فقرها ، جوعها ، كبتها وخوفها من المستقبل. حتى أننا كأبناء نكبت غضبنا على أهالينا وأقربائنا بحق أن نكون صالحين ، ولكننا إذا صمتنا داخل منازلنا سنبتاع ما ينفس عنا هذا الغضب كالمخدرات ، السلاح ، أو حتى تعلم الضرب والعنف وتداوله بين الأصدقاء. فينتهي بنا الحال بإيداع أبنائنا الى الإصلاحية أو دار الفتيان كما يسمونه ، أو الى حضور جلسه حكم إعدام على أحد أخواننا ، أو إنضمامهم الى جماعة متمرده ومسلحة.

لقد إستسهلنا سماع نشرات القتل وقرائتها وشرب نخبها على طرق مختلفة منها الخوض في الإتفاقيات ، والسياسة حتى أصبح الأمر عادي جدا عند سماع معارك قتاليه لجماعات متمرده ، أو مجموعات مسلحة وما الى ذلك في بلادنا. فيعتقد السياسي والمثقف بسذاجة مطلقة أنها ممارسات عادية كوسيلة من وسائل المطالبة بالحقوق او الأطماع كما يسمونها ويعلقونها على مانشيتات الصحف.

أبداً هي ليست كذلك .. إنها بتعريف حقيقي وصريح جدا ثورات غضب ستورث لأجيال قادمة بشحنات غضب أعمق وأقوى ما بين الأبناء والمعارضين والأجيال القادمة. ولأنكم أيها السادة ولأننا أيضا كمجتمع منافق نرسخ للتفرقة العنصرية والدينية والقبلية ما بين افراد مجتمعنا وأبناءه لن ننتبه يوما لهذه الجينات الملوثه . قد لانفعل ذلك كما أعلنه البيض قديماً في جنوب أفريقيا أو أمريكا وقضايا السود بتنفيذ الإبادات والمجازر والإنفصال ، إنما نحن نفعل ماهو أبشع وأعنف إننا نرضِع ونغرس هذه التفرقة ما بين أبنائنا بشئ من الحرفية حتى ينضج ولا يستطيع أن ينفك من أغلالها . لن يستطع مقاومة الشعور بالتقزز والإنفصال عن بني جلدته الذين يراهم مواطنون من الدرجة البدرونية .

ما ذنب عواصم السودان أن تصبح لوس أنجلوس أخرى في بلد يقبع تحت خط الفقر ، ليس منطقياً أن تتشابه الجرائم وتنتقل عبر دولتين وبيئتين لا تجمع مقاييس الإقتصاد ولا الإجتماع ولا السياسة بينهما إنما تتشابهان في همٍ واحد هو الغضب.
نلوم تريزا ودينق على تمرده وعلى كرهه لنا ، نستقطع حقوقه ونمن عليه على المستوى السياسي والإجتماعي ببعض مما يستحقه في الإختيار والحرية لكونه أسود أو مسيحي أو برائحه كريهه.
نصادق ونتجاذب أطراف الحديث ونتشارك الدراسة مع أبناء غرب السودان او الغرابي كما يدعِ المجتمع – وكأنها إعاقة بدنية - وحينما يقترب أكثر أو يطالب بتنفيذ رؤيته في نسب أو إدارة ، حينها تتضح وتنكشف أقنعة كذبنا ونفاقنا عليه بالصراخ فى وجهه أو التهامس ما بين أنفسنا بألا يحق له أكثر فهو لا يرتقي بمستوى مواطن من الدرجة الوهمية.

الواقع هو أننا نزدري غيرنا ونتطاول عليهم قولاً وفعلاً ، لكن لم نفكر في يوم ما أن نثور على جهلنا أن نذاكر درس الإنسانية بتعقل. أبناء الشمال كما يسمونهم أيضاً – كأنهم من كوكب فضائئ ـ سيتقاتلون علناً بالأسلحة والرصاص في شوارع الخرطوم لكيما يذوق هذا الشمالي وطأة جمر الغضب والفقدان والخوف الذي ورثه وغرسه في تراب هذا البلد.

لن ينزاح عنا البلاء ما لم يفقد كل أب أو أم أو قبيلة أشراف كما يدعون أحد أعضاء أسرته بطعن مطوة ، أو غرق في النيل ، أو مشاجره في حي أو جروح قاتله من لص ، أو قيود تكبل أيادي أبنائكم بالسنوات الطوال خلف القضبان. لن تذوقوا مرارة الواقع ولون الغضب ما لم يلتهم أكبادكم نار الحرب والتفرقة. كما ولن يتغير مسار هذه الأمة ما لم ترى مجازر ودماء داخل الفصول والبيوت والساحات ليتخلص كل حامل غضب من أحقاده وعجزه عن العيش بسلام. حينها فقط نستطيع أن نتساوى في الألم والفقد والذل والجرح ونتشارك وطن واحد بلا ترفع وفوقيه.

الى ذلك الحين وحتى تشعرون بالواقع ومرارته لا ترتادوا الجنائز وعزاءات الجرائم ، لا توهموا أنفسكم أنكم تشعرون بحرقة النار التي تأكل دواخلهم . وتذكر حينما تذهب هناك أنك القاتل المجهول والفرق ما بينك وبين القاتل الحقيقي هو أن الأخير كان أكثر شجاعة منك ونفذ منهجك وفكرك جهراً. أنت المسؤول فلا تدعي البراءة او إيجاد المبررات والدفوعات .

بالله عليك يا أمة ألا ترين كل ذلك الغضب والبغض ما بيننا .. اهآ عفواً تذكرت "إنه لا يُرى بالعين المُحرضة"!!!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا ستختار؟

لا بأس بقليل من البذاءة وعدم الاحترام والتعنت والصراخ والتمرد في هذه الحياة فحتى الرب يستحب اخطائنا وتوبتنا  لكن النظرية المثالية في المجتمع المسلم الشرقي ضد الخطايا وتحفز بعنف شديد منذ الصغر على اظهار الملاك الذي يسكنك على الرغم أنني ويا سبحان الله لم أصادفه في حياتي منذ أن وعيت لمعنى الحياة بالمقابل كل الذي يحوم حولك هو السباب من والديك مع حفنة قليلة من الكلمات الرقيقة الموسمية، تهاجمك شهوة النساء والرجال في مراهقتك ولا أحد يدلك لطريق الخلاص سوى أصدقاء -بارك الله فيهم- ينعتون بأصدقاء السوء رغم أن سوئهم كان المنقذ الوحيد في مقابلة الصمت من المجتمع الذي يعشق الرزيلة ويخرس حينما تحتاجها، ثم تبتلع صديد المجتمع بكل فئاته في العمل في الشارع في الزواج حتى الإمام في المسجد الذي تأوي اليه اسبوعيا لا ينفك يشعل نيران غضبك لا تهدئته النتيجة إما ازدواجية تعتريك كما حدث لكل الذين سبقوك في الحياة وإما صمت طويل لا فكاك منه أو الهرب وغالبا ما يختار العاقل هذا الأخير لأنه أخف ضررا نهرب من بلداننا ومن منازلنا ومن أنفسنا ومن عباداتنا ومن أزواجنا ومن خالقنا فليس لدينا من الشجاعة ولا الايجابية ولا الخبرة

أمـــي .. ولـــــكن !!!

عندما يتحدث الأخرون عن عيد الأم أتذكر أيامنا فى الثانوية حيث كنا نجلس فى شكل دائرى ونتحدث عما فعلنه بنا أمهاتنا .. من تفاصيل ، وغضب ، ونقد . كل فتاة منا كانت من مجتمع ، وتربية ، وموازين مختلفة عن الأخرى ولكن جميعنا كنا نعاني من تربية الأم السودانية. وفي كل صباح كانت تنضم الى حزب النقاش فتاة جديدة .. وكنا نكتشف أن الامهات السودانيات مهما اختلفت مستوياتهن العلمية او البيئية فهن من حواء سودانية واحدة بمعايير ثابته .. حتى اننا دُهشنا حينما أكتشفنا أن حتى الفاظ (التجريح، والزجر والعقوية) متشابهه اذا لم تكن متطابقة . ورحمة الله عليه دكتور عبدالجليل كرار"مدير مدرسة المنار الجديد بنات" كان يأتي ليجلس معنا ويطلق علينا ( جمعية مناهضة الأم السودانية ) فكنا نعترض على لفظ الأم ونضيف (تربية الأم) السودانية .. من الجانبين تربيتها هي كفتاة ، وحينما تغدو مُربية . كنا نفتتح النقاش بملاحظات أو أسئلة صغيرة مثل ( تفتكروا في زول فى السودان بكره أمه ؟ ) كانت الاجابة المعتادة لا وكان السؤال الذي يليه لماذا ؟ كان الرد .. بعد صمت طويل للبحث عن مبرر، وخوفنا منه نقول لأنها بإختصار أم .. السؤال الذي يليه

فزع

هل جربت ان تصحو منتصف الليل فزعا تتحسس مثلك وقيمك؟ هل أضناك البحث عن أسباب انهيار القيم المجتمعية والاخلاقية فيمن حولك؟ هل تبحث بين الكتب والمراجع عن مجتمعات فاضلة لتندس وتهرب اليها؟ هل تطيل النظر في عيني كل من تتعرف عليه حديثا متفحصا ومتوجسا من أن يكون مفلس أخلاقيا؟ يعتقد الاغلبية منا أن من أبتلوا بالاعاقات النفسية ومتكدسين في المستشفيات والمصحات العقلية أنهم ضحايا الحياة أو ضحايا أنفسهم، لكنهم مع الأسف ضحايا مجتمع (زيرو أخلاق) مفلس وغير واعي لافلاسه. تقوده جذوة النفس الأمارة بالسوء وهو لا يدرك أنه من أهل السوء ويكاد يهدم ويقتل ويحرق ليثبت أنه ليس من هذه الفئة حينما تصبح الاخلاق مجرد جمل وصفات تكميلية تكتب على السير الذاتية وليست افعال تمثلنا حينها يصبح جميع من بالمجتمع ملصقات مزخرفة معبئة بأردئ أنواع المنتجات مغشوشة ومزيفة